2025-06-29

صرخة في المحيط

 

ف

ي صباحٍ بارد من ربيع عام 1912، كانت الشمس تلامس سطح الماء بلطف بينما وقفت "إليز" على سطح السفينة "تايتنك"، تنظر إلى الأفق بعينين مليئتين بالأمل. كانت في التاسعة عشرة من عمرها، تنتمي لعائلة إنجليزية فقيرة، وقد باعت والدتها كل ما تملك لتمنحها تذكرة في الدرجة الثالثة، على أمل أن تبدأ حياة جديدة في أمريكا.

تايتنك لم تكن مجرد سفينة؛ كانت حلمًا عائمًا، تُعرف بأنها "السفينة التي لا تغرق"، بجدرانها الحديدية الضخمة، ورفاهيتها الفاخرة، ومطاعمها التي تفوح منها روائح لم تعرفها الطبقات الكادحة من قبل.

على الطرف الآخر من السفينة، كان "توماس"، شاب أمريكي في السادسة والعشرين، ينتمي للطبقة الراقية، لكنه كان مختلفًا عن باقي أبناء طبقته. جاء إلى إنجلترا باحثًا عن الإلهام، وكان عائدًا إلى وطنه بعد عام من الترحال.

شاءت الأقدار أن يلتقي بـ"إليز" ذات مساء على سطح السفينة، عندما كانت تحاول الكتابة في دفترها الممزق، تتأمل النجوم. سألها بلطف:
– "هل تكتبين الشعر؟"


ردّت بخجل:
– "لا... أكتب عن الحلم."

بدأ بينهما حديثٌ لم ينتهِ، وصارت أمسيات السفينة لحظاتٍ من الدفء وسط بحرٍ بارد.

لكن في ليلة 14 أبريل، اصطدمت تايتنك بجبل جليدي. في البداية، لم يفهم الركاب ما حدث، كانت الموسيقى لا تزال تُعزف، والضحكات تتردد. لكن بعد ساعات، بدأت الحقيقة تظهر: السفينة تغرق.

حالة من الفوضى عمت المكان. الصراخ، البكاء، المياه الباردة تتسلل إلى الأقدام، وضوء النجوم ينعكس على وجوه مذهولة.

ركض "توماس" يبحث عن "إليز"، ووجدها مبلّلة ترتجف. وضع سترته على كتفيها وقال لها بصوتٍ متهدّج:
– "يجب أن تركبي أحد القوارب الآن!"
– "وأنت؟!"
– "لن أذهب. كل النساء والأطفال أولاً، هكذا تقول القواعد..."

بكت "إليز"، تمسكت به، لكنه أجبرها على الصعود. وقبل أن يُغلق القارب، أعطاها دفترها الذي سقط منها قائلًا:
– "اكتبي عنّا... ودعيني أعيش في كلماتك."

أبحر القارب، وبقي "توماس" واقفًا في الظلام، يلوّح لها، حتى ابتلعته المسافة.

بعد أيام، وصلت "إليز" إلى نيويورك. لم يكن لديها مال، ولا عائلة، لكنها امتلكت شيئًا لا يُقدّر بثمن: الذاكرة، والقصّة، والحبّ الذي لم تكتمل فصوله.

جلست على الرصيف، وفتحت دفترها، وكتبت أولى كلماتها:
"كان اسمه توماس، وكان الحلم الوحيد الذي لم يغرق..."

قصة تايتنك ليست مجرد حادثة غرق لسفينة عملاقة، بل قصة إنسانية عن الأمل، والفقد، والتضحية. بين جليد المحيط وحرارة القلوب، خُلّدت قصص كثيرة، منها من نُسي، ومنها من ظلّ حيًا في دفاتر الناجين.


ليست هناك تعليقات

إرسال تعليق

© جميع الحقوق محفوظة مداد الجليد 2013 -