أنواع الأرقام العربية وأصلها

أنواع الأرقام العربية وأصلها

في تقدم العرب في مجال الأرقام وتطور أذهانهم فيه
ويتكون من تمهيد ومبحثين :
التمهيد:في تقدم العرب في مجال الأرقام وتطور أذهانهم فيه
       لقد فتق الإسلام عبقربية العرب وغيرهم من أتباعه في ميادين المعرفة ، فلم يرض لهم الركون إلى مضمار واحد من تلك المضامير ، بل جعلهم يتطلعون دائما نحو الأفضل والأكمل 



  ولا شك أن مرور الزمان وسيره وما يجدّ فيه ، يستدعي تطورا وتوسعا يتناسب مع تلك المستجدات ، فسذاجة الأوائل أدت إلى سذاجة الوسائل ، وأما ما يجري من تقدم في أساليب الحضارة المادية فإنه لابد وأن تواكبه وسائل دقيقة ومركبة ومعقدة ، ومن السنن المعهودة أن الأشياء تبدأ صغيرة ثم تكبر ، وقليلة ثم تكثر .
        فبعض السابقين الذين كان الواحد منهم لا يحتاج في شهره إلى أكثر من درهمين أو ثلاثة ، قد يضن أن الألف نهاية العدد ، لكنه كلما ازداد إنفاقه اتسع أفقه ، وتفتقت مداركه في هذا الأمر .
       وتقدم أن العرب - في الحجاز وغيره – رمزوا للأرقام بحروف أبجديتهم ، ولكنهم وجدوا عند بعض الحضارات المجاورة نضاما آخر يفصل بين الحروف والأرقام ويختار للأرقام أشكالا خاصة بها يمكن إدراجها في منازل تكتسب منها قيمتها . فكتبوا بتلك الأرقام أعدادهم واستخدموها في حسابهم ، مع تهذيبها وتطويرها وتوحيدها وحسن تصويرها  .
       قال الأستاذ قدري حافظ طوقان : "وعلى ذكر الأرقام العربية (أو الأرقام الهندية) نقول: أن لهذه الأرقام مزايا عديدة ، منها : تقتصر على عشرة أشكال بما فيها الصفر . ومن هذه الأشكال يمكن تركيب أي عدد مهما كان كبيرا ، بينما نجد أن الأرقام الرومانية تحتاج إلى أشكال عديدة وتشتمل على أشكال جديدة للدلالة على بعض الأعداد ، أما الأرقام اليونانية والعربية القديمة  القائمة على حساب الجمّـل فإن عددها كان بقدر حروف الهجاء"  .
        وكان العامة يستعملون حساب اليد الذي يتطلب جهدا ذهنيا كبيرا ، فوجد علماء الحساب المسلمون أن الحساب الهندي يخفف عنهم هذا العناء والجهد ، وييسر عليهم عمليات الحساب التي تعتمد على أعداد كبيرة ، لكنهم وجدوا أن طريقة الهنود في حسابهم عليها مآخذ ، وفيها عيوب؛ وذلك أن الهنود يجرون حسابهم على اللوح والتراب ، وقد تطمس الريح آثار الأرقام في ذاك التراب ، فعدلوا ذلك باستعمالهم الحبر بدل التراب ؛ فمكنهم ذلك من الكتابة على الورق ، وأكسبهم فائدة أخرى تحجبهم عن عيب آخر في الحساب الهندي ، وهو أن عمليات الحساب الهندي تقوم على محو المراحل المتقدمة التي يقوم بها الحاسب حتى لا يبقى على لوحة سوى النتيجة.
       بل إنهم هم الذين نوّهوا بحساب الهند (حساب الغبار) الذي لم يكن يعرفه الناس فضلاً عن الكثير من الهنود ، حيث كان معروفا في الهند لدى طوائف التجار دون غيرهم من أهل الحساب والفلك ، فهذبه المسلمون وطوروه وأعلنوه ووحدوه (قد أشرنا أعلاه إلى الحساب لصلته  الوثيقة بالأرقام ، ولأن العرب المسلمين كانت لهم أياد جليلة في تطوير هذا العلم وتعديله وتحقيقه ومدّه ، مما كان له الأثر الباهر في الحضارة المادية المعاصرة . وقامت المصادر السابقة ضمن هذا التعليق بتوضيح هذا الأمر في مواضع كثيرة ، ونخص منها كتب العلامة الدكتور أحمد سليم سعيدان رحمه الله تعالى) .
       وإن قواعد البحث العلمي تستجوب الوقوف عند الأرقام المستعملة في ديار العرب ؛ لاستكشاف أصلها عن طريق الحجة والبرهان ، دون تقليد وترديد لما كُتب .

المبحث الأول
أنواع الأرقام العربية وأشكالها
ويشتمل على مطلبين :
المطلب الأول
أنواع الأرقام العربية

       تتنوع الأرقام العربية على نوعين :
      النوع الأول : ما يستعمل في المشرق : ويعرف بالأرقام (أو الحروف) الهندية ، ويسميها البعض : الأرقام المشرقية ، ومنهم من يطلق عليها اسم الأرقام العربية ، أو الحروف الغبارية . لكن الأشهر من تلك الأسماء هو الأول – أعني الأرقام الهندية-  .
      والنوع الآخر : ما يستعمل في المغرب : ويعرف بالأرقام الغبارية ، وحروف الغبار ، ويسمى أيضا بالأرقام العربية ، وبالأرقام المغربية  .

المطلب الثاني
أشكال الأرقام العربية

      عرضنا من قبل عند الحديث عن الترقيم الهندي أشكال الأرقام الهندية كما حكتها الكتب العربية وغير العربية ، ونجد هذا المكان مناسبا أيضا لعرض أشكال الأرقام الهندية المذكورة في الكتب العربية ، وكذلك أشكال الأرقام المغربية التي تعرف بالأرقام الغبارية ، ودونكم هذا العرض :
1       -  أشكال الأرقام الهندية حسب ما رسمتها الكتب العربية في الحساب الهندي :

                     
       وعرض الدكتور أحمد سعيدان في عدد من رسائله وكتبه نماذج لصور الأرقام الهندية كما رسمت في كتب الحساب العربي ، وننقل لكم هنا بعضها :
الأُنموذج الأول :

 
الأُنموذج الثاني :





     وعلى الطريقة الهندية كان الحساب كلما كتب رقما أو عددا وضع فوقه خطا أفقيا صغيرا (ذكر الأستاذ المحقق عبد السلام محمد هارون في كتابه : (تحقيق النصوص ونشرها) بعضا من صور الأرقام المستخدمة في المخطوطات القديمة ، فقال : "وهذه صورة الأرقام التي ترد في المخطوطات القديمة :     ، وهي :  . وأحيانا تُكتب الاثنان والأربعة والخمسة هكذا 
   ) .

2  -  أشكال الأرقام الغبارية (المستعملة في المغرب) :
     إن أول مصدر وصل إلينا يحكي فيه مؤلفه أشكال الأرقام الغبارية المغربية  ، هو كتاب تلقيح الأفكار في العمل برسوم الغبار لأبي محمد عبد الله بن محمد بن حجاج الفاسي المعروف بابن الياسمين – المتوفى سنة 601 هـ -
 (تحتفظ الخزانة العامة بالرباط بنسخة من كتاب ابن الياسمين تحت الرقم (222)) ، إذ قال في باب مراتب الأعداد :
       "واعلم أن الرسوم التي وضعت للعدد تسعة أشكال ، يتركب عليها جميع العدد ، وهي التي تسمى أشكال الغبار ، وهي هذه
، ولكن الناس عندنا على الوضع الأول ، ولو اصطلحت مع نفسك على تبديلها أو عكسها لجاز ، ووجه العمل على حاله لا يتبدل ، وقد صنعها قوم من جواهر الأرض مثل الحديد والنحاس من كل شيء ، منها أعداد كبيرة ويضرب بها ما شاء من غير نقش ولا محو ، وأما أهل الهند فإنهم يتخذون لوحا أسود يمدون عليه الغبار وينقشون فيه ما شاءوا ولذلك يسمى حساب الغبار (قال ابن البناء المراكشي في المقالات "وإنما سميت بحروف الغبار لأن أصل علم الحساب بها : كان يعمد المتعلم إلى لوح من خشب ، ويبسط عليه غبارا رقيقا ، ثم يأخذ عودا صغيرا ، فيرسم به تلك الحروف في ذلك الغبار) .       ثم جاء ابن البناء المراكشي –المتوفى سنة 721 هـ - ، فرسم صور الأرقام الغبارية على النحو التالي :
.
وقد عرضها الدكتور أحمد سعيدان في بعض كتبه ورسائله على الأشكال التالية :



(وممن اعتمد الأرقام الغبارية من حسّاب المغرب قبل ابن البناء المراكشي محمد بن عبد الله الحصار في كتابه : البيان والتذكار في علم مسائل الغبار ، كما في نسخة الخزانة العامة بالرباط) .

المبحث الثاني
أصل الأرقام العربية
  
       اختلف الدارسون في بيان مصدر الأرقام التي استعملها العرب في المشرق والمغرب ، فمنهم من جعلها هندية أو سندية ، وتمسك البعض بعروبتها وذهب قوم إلى التفريق بين المشرقية والمغربية في هذا الأمر ، وزعم بعض الناس أنها يونانية .
       لأجل هذا الاختلاف كان لابد من تجلية الأمر وتوضيحه بما يناسب المقام .
وينتظم هذا الموضوع في أربعة مطالب :

المطلب الأول
من ذهب إلى أنها هندية أو سندية     

       من أوائل الذين اختاروا هذا القول المؤرخ أحمد بن يعقوب المعروف باليعقوبي ، إذ قال في تاريخه : "إن أول ملوك الهند الذي اجتمعت عليه كلمتهم (برهمن) الملك ، الذي في زمانه كان البدء الأول ، وهو أول من تكلم في النجوم ، وأُخذ عنه علمها ، والكتاب الأول الذي تسميه الهند : الهند سند ، وتفسيره دهر الدهور ، ومنه اختصر الأرجبهد والمجسطي ، ثم اختصروا من الأرجبهد الأركند ، ومن المجسطي كتاب بطليموس ، ثم عملوا من ذلك المختصرات والزِّيجات وما أشبهها من الحساب . ووضع التسعة الأحرف الهندية التي يخرج منها جميع الحساب والتي لا تدرك معرفتها وهي . . وهي بالرسم الشرقي الحديث . 
       وقد ارتضى المسعودي   هذا القول كما تقدم ، ونقلتُ من قبل أيضا قول أبي الريحان البِيروني : "وكما أن صور الحروف تختلف في بقاعهم ، كذلك أرقام الحساب – وتسمى : (انك) - ، والذي نستعمله نحن مأخوذ من أحسن ما عندهم". وقال أبو عبد الله محمد بن أحمد الخوارزمي الكاتب : "حساب الهند قوامه تسعة صور".   
       وذكر أبو الحسن أحمد بن إبراهيم الأقليدسي في كتابه الفصول في الحساب الهندي  الأرقام  التي تعرف بالمشرقية وبالهندية ، ورأيتَ رسمها . وكذلك فعل كوشيار بن لبان الجيلي في رسالته أصول حساب الهند  كما عرفت . وصرح جمشيد الكاشي بهندية الأرقام المشرقية فقال : "اعلم أن حكماء الهند وضعوا تسعة أرقام للعقود التسعة المشهورة على هذه الصورة : .
       وقال طاش كبري زاده في رقوم الحساب : "وتنسب هذه الأرقام إلى الهند". وقال ابن النديم : "الكلام على السند : هؤلاء القوم مختلفو اللغات مختلفو المذاهب ، ولهم أقلام عدة . قال لي بعض من يجول بلادهم : إن لهم نحو مئتي قلم . . . وذكر هذا الرجل المقدم ذكره أنهم في الأكثر يكتبون بالتسعة الأحرف على هذا المثال  . . . (سبق إيراد صور تلك الأرقام عن ابن النديم) .
       وقد سبق أن الراهب السرياني (سيبخت) نَوَّه بالأرقام التسعة التي عرف بها الهنود ، وذلك في كتابٍ له وضعه بعد سنة 622م – وهذه السنة توافق عام هجرة النبي –صلى الله عليه وسلم- ، وتعد هذه أقدم إشارة لتلك الأرقام  .
      ويبدو أن المذكورين عَنَوا الأرقام المشرقية من غير تعرض للمغربية منها ، وإن كان كلام بعضهم يحتمل إرادة أصل الأرقام التي تشمل المغربية أيضاً . وما تقدم قريباً عن ابن الياسمين في كتابه تلقيح الأفكار يدل على أن الأرقام بنوعيها تنزع إلى أصل واحد ، وظاهر كلامه يفيد أن ذاك الأصل هو الهند .
      وفي هذا العصر قامت ثلة من العلماء والباحثين بنسبة الأرقام المشرقية والمغربية - على حد سواء - في أصلها إلى االهند أو السند ، وفي مقدمتهم الدكتور أحمد سليم سعيدان أستاذ تاريخ العلوم في الجامعة الأردنية ، وعميد كلية العلوم فيها سابقاً ، وعضو مجمع اللغة العربية الأردني ، "وهو يعتبر اليوم في طليعة المشتغلين بتاريخ علوم الرياضيات عند العرب"  .
       ومن أقواله في ذلك ، ما يلي : "لا شك في أن أرقامنا –  سواء منها المستعملة في المشرق باسم الأرقام الهندية ، أو المستعملة في المغرب باسم الأرقام العربية- هي هندية الأصل  . . . أما في بلاد السند (باكستان) التي يبدو أنها كانت المهد الذي فيه نشأت هذه الأرقام ، فتبقى الأرقام أكثر شبها بأصلها إلى اليوم . . . وأما سائر بلاد الهند فقد اتخذت لنفسها مجموعة أخرى مغايرة . . . ونحن الذين لدينا من النصوص ما يؤكد الأصل الهندي لهذه الأرقام ، نجد هذه التسميات منطقية لا شبهة فيها ، إلا أن الأجيال السابقة من المؤرخين لم يطلعوا على كتابات اليعقوبي والبِيْْروني والإقليدسي وغيرهم ، فشكوا في صحة هذه النسبة" (يُنظر ما كتب عن الترقيم الهندي بالرابط الخاص بذلك) .
        وكذلك الأستاذ قدري حافظ طوقان – عضو المجمع العلمي العربي بدمشق ، ونائب رئيس الإتحاد العلمي العربي ، ورئيس الجمعية الأردنية للعلوم- ، القائل : "لقد اطلع العرب على حساب الهنود ، فأخذوا عنه نظام الترقيم . . . وكان لدى الهنود أشكال عديدة للأرقام ، هذَّب العرب بعضها وكوَّنوا من ذلك سلسلتين ، عرفت إحداهما بالأرقام الهندية وهي التي تستعملها هذه البلاد وأكثر الأقطار الإسلامية والعربية ، وعرفت الثانية بالأرقام الغبارية ، وقد انتشر استعمالها في بلاد الغرب والأندلس"  .
       وقد ارتضى رأيهما الدكتور عبدالحليم منتصر في كتابه تاريخ العلم ودور العلماء العرب في تقدمه ، والدكتور عبدالله العمري في كتابه تاريخ العلم عند العرب ، والأستاذ محمود باكير في بحثه : الرقم والعدد بين اللغة والرياضيات ، والدكتور محمد عبد الحكيم بخاري في كتابه الأرقام العربية (نشرت مجلة اللسان العربي المغربية "المجلد 12 ، الجزء الأول" تعقيبا باسم : الأرقام العربية في المشرق والمغرب – تقرير وزارة الإعلام في دولة الكويت . وجاء في هذا التعقيب ، أن الأرقام المستعملة في المشرق والمغرب من أصل هندي) ، والدكتور عمر فروخ – عضو مجمع اللغة العربية في القاهرة وعضو المجمع العلمي العربي في دمشق وعضو جمعية البحوث الإسلامية في بومباي – في كتابه تاريخ العلوم عند العرب  .
       بل إن الأستاذ عبد الهادي التازي سفير المغرب ببغداد – سابقا- ذكر في بحث له قدمه سنة (1383هـ/ 1963م) إلى حلقة توحيد الأرقام العربية ، التي انعقدت في تونس – برعاية الإدارة الثقافية لجامعة الدول العربية – أن الأرقام  المشرقية والمغربية من أصل هندي ، لكنها مرت بمراحل ابتعدت فيها عن شكلها الأصلي ، مضيفاً أن المغاربة : "تمسكوا بتحوير جوهري أدخلوه على الأرقام الواردة . . . ولعل هذا التحوير الجوهري هو الذي حدا بالعرب أن يتبنوا
هذه الأرقام" (الأرقام المغربية أرقام عربية أصيلة . وتبعه على هذا القول – فيما يبدو – الأستاذ عبد العزيز بن عبد الله في بحثه : العالم العربي متجه نحو استعمال الأرقام العربية المغربية ، إذ قال : "وإذا قلنا بأن الأرقام المشرقية الحالية والأرقام الغبارية كلاهما من أصل هندي ، فإن ذلك يرجع إلى تعدد أشكال الأرقام الهندية تبعا لمناطق بالهند كما لاحظ ذلك البِِيروني ، ولعل العرب اكتفوا من هذه الأشكال بصنفين فقط ، نتج عنهما الطريقتان المشرقية والغبارية المغربية إذا صح أن هذه ليست عربية أصيلة . وقد أكد ابن الحباك محمد بن أحمد التلمساني . . . أن حساب الغبار من وضع الهنود الذين كانوا يتصرفون به في غبار مبسوط على لوح وأشكالها تسعة .
وفي ذلك إشارة إلى عادة رش الغبار على الألواح المستعملة لإجراء الحساب ليمكن رسمها بالأصبع . والأرجح عند البعض في تعليل هذه التسمية أن هذه الأرقام كانت تكتب بالقلم المسمى "غباري" ؛ لدقته بالنسبة للأقلام الأخرى ، وهو أصلح للحسابات ، وهذه أيضا نظرية تؤكد انفصال القلم الغباري عن القلم الهندي . . . فعروبة الأرقام المستعملة الآن في أوروبا والمغرب قد تكون غير أصيلة نظرا لطابعها الهندي المحتمل ، غير أن هنالك فرقاً بين الشكل الهندي الأول وبين ما أصبح العرب يستعملونه من أرقام وَصفتها أوروبا بأنها عربية) .
       ومحل الشاهد هنا هو الإقرار بأن أصل الأرقام بنوعيها هندي ، رغم ما وقع فيها من تغيير وتحوير وابتكار .
       وذهب الدكتور محمد السمان إلى نحو هذا عندما قال : "لكن الفزاري لم ينقل الأرقام الهندية ، وإنما استوعب فكرتها وتوصل إلى وضع رموز عربية مستوحاة منها ، ومع الأيام ظهرت أجيال جديدة ومتعددة لهذه الرموز . . . وفي الوقت الذي تمكن فيه العرب بجهودهم وممارساتهم العلمية من تطوير الأرقام إلى هذين النوعين انطلاقاً من تصور هندي سابق كانت أوروبا في ظلام الجهل" (وأما ما ذكره من وضع الفزاري للأرقام فإنه لا دليل عليه كما سيأتي إن شاء الله تعالى) .
       ويرى العلامة السيد عبد الله بن محمد بن الصِّديق الغماري : أن ما يستعمله المشارقة من أرقام هي هندية  ، بخلاف الأرقام المغربية كما سيأتي إن شاء الله تعالى . وذهب إلى هذا الرأي أيضاً محمد السراج الأستاذ بجامعة القرويين سابقاً  (عن / الطابع العربي في الأرقام الرياضية – مع أن بداية بحثه هذا فيه نوع من المخالفة للنتيجة المذكورة التي توصل إليها) . وناقضهما الدكتور قاسم السامرائي ، إذ رأى أن الأرقام التي يستعملها المغاربة اليوم "هي هندية ، سنسكريتية ، آرية ، برهمية الأصل ، جاءت إلى الغرب من الترجمات العربية لكتب الحساب الهندي ، فلما ترجمت هذه الكتب من العربية  إلى اللاتينية ظن الأوربيون أنها أرقام عربية" (تاريخ الخط العربي وأرقامه) . بخلاف الأرقام المستعملة في المشرق كما سيأتي إن شاء الله تعالى (وتنظر آراء جماعة من الغربيين في هذه المسألة على عمومها في مقدمة تحقيق الفصول في الحساب الهندي ، وغيره ، وقد تقدم شيء من ذلك عند الحديث عن الترقيم الهندي) .
        وبعد هذا فإنه ينبغي تحديد التاريخ الذي انتقلت فيه الأرقام من الهند أو السند إلى العرب بناء على هذا القول الأول ، وتوضيحه فيما يلي :
       إن أول إشارة للأرقام الهندية هي التي ذكرها الراهب السرياني (سبيخت) – الذي كان في دير قِنِّسرين – في كتاب له وضعه بعد سنة 622 م وهذه السنة توافق عام هجرة نبينا – صلى الله عليه وسلم – منوهاً بعلوم للهند غفل الناس عنها ، ومن ذلك أنهم بتسعة إشارات فقط يرمزون إلى أي عدد كان (يُنظر ما تقدم آخر الكلام عن الترقيم الهندي) .
       لكن الغموض اكتنف تاريخ هذه الأرقام بعد تلك الإشارة المجملة ، إلى منتصف القرن الثاني الهجري في عهد أبي جعفر المنصور ثاني خلفاء بني العباس ، حيث أُعجب العرب بعلم الفلك الهندي الذي قادهم تلقائياً إلى تعلم حساب الهنود وأرقامهم ، وكيفية ذاك الاتصال الديواني الأول يحكيها لنا صاعد الأندلسي في كتابه طبقات الأمم فيقول :
       "وأما علم النجوم فأول من عُني به في هذه الدولة محمد بن إبراهيم الفزاري وذلك أن الحسين بن محمد بن حميد المعروف بابن الأدمي ، ذكر في زِيْجه الكبير المعروف بِنَظْم العقد : أنه قدم على الخليفة المنصور في سنة ست وخمسين ومئة ، رجل من الهند بالحساب المعروف بالسند هند في حركات النجوم . . . في كتاب  يحتوي على اثني عشر باباً (قال الدكتور سعيدان في مقدمة تحقيقه لكتاب الفصول في الحساب الهندي : "والمرجح أن السند هند الكبير الذي يتكلم عنه نص ابن الأدمي ، هو الكتاب الذي وضعه براهما جبتا سنة 627 م. – (6 هـ.)" . ثم قال في الصفحة التالية : "إلا أني استنادا إلى إشارات أخرى للبِيْروني أرى أن الأمر بين الهندي والمترجمين إلى العربية لم ينحصر في نقل كتاب معين بل كان شرحا لمادة الفلك الهندي ، دخل فيه عناصر من كتب براهما جبتا وأريابهاتا والسدهانتات الأخرى ، وربما دخل فيه عناصر غريبة عنها كلها" . ويُنظر : العد والترقيم عند العرب) . . . فأمر المنصور بترجمة ذلك الكتاب إلى اللغة العربية ، وأن يُؤَلَّف منه كتابٌ تجده العرب أصلاً في حركات الكواكب ، فتولى ذلك محمد بن إبراهيم الفزاري ، وعمل منه كتاباً يسميه المنجمون (السند هند الكبير) . . .  فكان أهل ذلك الزمان يعملون به إلى أيام الخليفة المأمون ، فاختصره له أبو جعفر محمد بن موسى الخوارزمي ، وعمل منه زِيْجه المشهور ببلاد الإسلام ، وعدَّل فيه . . . واخترع فيه من أنواع التقريب أبواباً حسنة . . . فاستحسنه أهل ذلك الزمان" (وقام جمال الدين علي بن يوسف القفطي بنقل كلام ابن الأدمي أيضا ، وذلك في كتابه إخبار العلماء بأخبار الحكماء . وكتاب صاعد الأندلسي احد مصادر ابن القفطي .
ونذكر هنا ان من الإشارات العربية القديمة إلى حساب الهند قول أبي عثمان الجاحظ – المتوفى سنة 255 هـ. – في رسالته : المعلِّمين – المطبوعة ضمن رسائل الجاحظ – تحت فصل : رياضة الصبي : فمن الرأي أن يُعتمد به في حساب العقْد دون حساب الهند ، ودن الهندسة) .
       فقد اعتمد جماعة هذا النص ، للدلالة على أن الأرقام الهندية انتقلت إلى الديار العربية عبر ذلك الفلكي الهندي الوافد ، إلا أن العلامة الدكتور أحمد سليم سعيدان ، دحض هذا الرأي بأنه لا أثر للأرقام العربية التي استعملها المشارقة والمغاربة في ذلك الكتاب الذي حمله الفلكي الهندي ، ولا في الإشارات الكثيرة التي اقتبسها البِيْروني من كتاب محمد بن إبراهيم الفزاري ، بل لا توجد تلك الأرقام في ما وصف بأنه أول كتاب وضع بالعربية في الحساب الهندي ، وهو كتاب أبي جعفر محمد بن موسى الخوارزمي – وإن كان يزعم كثير من المؤرخين أنه الكتاب الأول الذي نقل الأرقام الهندية إلى العالم الإسلامي - ، وذلك من خلال ما تبقى منه مترجماً إلى اللاتينية – لأن الأصل مفقود - ، وإنما فيه أرقام مختلفة فضلاً عن طريقة الحساب المغايرة  لما اتفقت عليه الكتب العربية في الحساب الهندي .
       والكتب العربية التي وصلت إلينا في الحساب الهندي – وأقدمها كتاب الفصول – أخذت بما يسمى بحساب التخت (اللوح) والتراب ، أو حساب الغبار ، ويبدو أن هذا الحساب كان منتشراً في السند (لذا لا توجد في كتب الحساب الهندي لدى العرب مصطلحات سنسكريتية ، أو ألفاظ هندية ، أو إشارة لكاتب أو كتاب هندي ؛ بخلاف كتب العرب في الفلك الهندي – مقدمة تحقيق الفصول في الحساب الهندي - .
وقد رجح الدكتور سعيدان – كما في المصدر السابق - : "أن الحساب الهندي العربي يحمل آثارا فارسية ، وهنا نذكر أن الأجزاء الشمالية الغربية من الهند خضعت زمنا طويلا للحكم الفارسي" .
وقال الدكتور سعيدان في قصة الأرقام والترقيم : "فللهند عامة وللسند على نحو خاص يرجع الفضل في ابنكار الأرقام التي تستعمل اليوم في معظم أنحاء العالم ، ولكن فضل العرب والمسلمين في أنهم انتشلوا النظام الحسابي الهندي من أوساط العامة ، وجعلوه علما توضع فيه الكتب ، ونشروه وعدلوه ومدّوه" . وينظر عن دور المسلمين الرائد في تهذيب وتطوير الحساب الهندي وأرقامه الصادر التالية : قصة الأرقام والترقيم  ،  مقدمة تحقيق الفصول في الحساب الهندي  ،  مقدمة تحقيق المقالات في علم الحساب  ،  علم الحساب عند العرب  ،  وغيزها") . وما جاورها بين عامة الناس ، لاسيّما التجار – وأهل تلك الناحية يكتبون بالخارشتية ، التي كانت تتجه من اليمين إلى اليسار - .
       ويفترض أن يكون هذا الحساب نتاج مدرسة ، لكنه لم يصل إلينا شيء من كتبها (قال الدكتور أحمد سعيدان في علم الحساب عند العرب : "المصادر الهندية الكلاسيكية (السنسكريتية) . . . ليس فيها من هذا الحساب الهندي الذي تصفه الكتب العربية شيء . . . المصدر الوحيد المعروف الذي فيه ملامح من هذا الحساب . . . مؤلفه "دهاره" عاش ما بين 650 م  و  950 م – (أي بين 235 – 338 هـ تقريبا) - ، فإذا صح ذلك يكون دهاره قد عاش في العهد الذي شرع فيه الحساب الهندي يشق طريقه في العالم الإسلامي . . . إلا أن الكتاب نفسه كغيره من الكتب الهندية القديمة ، تعطى فيه القواعد الحسابية بأراجيز شعرية موجزة لا مكان معها لكتابة رموز أو تفصيل عمليات" . وينظر قصة الأرقام والترقيم ، كما ينظر العد والترقيم عند العرب ، وقد تقدم إيراد الشاهد منه عند الكلام على الترقيم الهندي) . ، ولعل ذلك بسبب طبيعتها القائمة على الغبار والمعتمدة على المحو .
       ويضن أن العرب المشارقة تلقوا هذا الحساب مع أرقامه عن طريق التجارة البرية ، وحمله أهل الشمال الإفريقي في تجارتهم البحرية . واختلاف أشكال الأرقام المشرقية والمغربية سببه تعدد صور الأرقام في الهند والسند – كما تقدم عن ابن النديم والبِيْروني - .
       ولعل ما تقدم عن الراهب السرياني "سيبخت" ، يومئ إلى أن بعض العرب المسلمين عرفوا تلك الأرقام قبل أن يكتب الخوارزمي كتابه في الحساب الهندي بوقت طويل ، لكن الخوارزمي لفت نظر علماء الحساب إلى أهمية الحساب الهندي – رغم أنهم لم يأخذوا بطريقته في ذلك (لكن جاء في كتاب طبقات الأمم لصاعد الأندلسي ما نصه : "ومما وصل إلينا من علومهم في العدد حساب الغبار الذي بسطه أبو جعفر محمد بن موسى الخوارزمي ، وهو أوجز حساب وأصغره وأقربه تناولا") .- ، فمن ذلك الوقت راح الناس يتمسكون بتلك الأرقام وعملوا على إشاعتها**.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المراجع:


**- رأي الأستاذ المحقق الدكتور أحمد سعيدان استخلصه من المصادر التالية :
1-      قصة الأرقام والترقيم  ،  مقدمة تحقيق الفصول في الحساب الهندي  ، وعلم الحساب عند العرب
2-      كتاب "الأرقام العربية – تاريخها وأصالتها وما استعمله المحدثون وغيرهم منها / لمؤلفه الأستاذ الدكتور الفاضل قاسم علي سعد.  


أترك تعليقا

أحدث أقدم