2016-12-09

مقدمة في السيرة النبوية


الدرس (الأول)
مقدمة
الشيخ/ ناصر بن محمد الأحمد
- بيان أهمية السيرة النبوية.
- مقاصد دراسة السيرة النبوية.
- خصائص السيرة النبوية.
- ضوابط دراسة السيرة النبوية.
الدرس الأول:
مقدمة عن السيرة النبوية:
إن الحمد لله: أما بعد:
نبدأ على بركة الله -جل وتعالى- الدرس الشهري في سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم-، وقد خصصت هذا الدرس؛ ليكون مقدمة عن السيرة النبوية، وسأتحدث فيها عن أربعة عناصر:
أولاً: بيان أهمية السيرة النبوية.
ثانياً: مقاصد دراسة السيرة النبوية.
ثالثاً: خصائص السيرة النبوية.
رابعاً: ضوابط دراسة السيرة النبوية.
أولاً: بيان أهمية السيرة النبوية:
السيرة النبوية جزء من التاريخ باعتبار أحداثها ووقائعها؛ إذ إن موضوع التاريخ هو: "أحوال الأشخاص الماضية من الأنبياء والأولياء والعلماء والحكماء والشعراء والملوك والسلاطين وغيرهم".
فالغرض من دراسة السيرة: هو أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- هو الصورة العملية التطبيقية لهذا الدين، وجميع الطرق الموصلة إلى الله تعالى, ثم إلى الجنة موصدة ومغلقة إلا طريقه -صلى الله عليه وسلم-، ويمتنع أن تعرف دين الإسلام ويصح لك إسلامك بدون معرفة الرسول -صلى الله عليه وسلم- وكيف كان هديه وعمله وأمره ونهيه ومنهجه وسنته؟
لقد سالم النبي -صلى الله عليه وسلم- وحارب، وأقام وسافر، وباع واشترى، وأخذ وأعطى، وما عاش -صلى الله عليه وسلم- وحده، ولا غاب عن الناس يوماً واحداً، ولا سافر وحده، وقد لاقى صنوف الأذى وقاسى أشد أنواع الظلم، وكانت العاقبة والنصر له.
بعث -عليه الصلاة والسلام- على فترة من الرسل، وضلال من البشر، وانحراف في الفطر، وواجه ركاماً هائلاً من الضلال والانحراف والبعد عن الله تعالى، والإغراق في الوثنية، فاستطاع -بعون الله- أن يخرجهم من الظلام إلى النور، ومن الضلال إلى الهدى، ومن الشقاء إلى السعادة، فأحبوه وفدوه بأنفسهم وأهليهم وأموالهم، واقتدوا به في كل صغيرة وكبيرة، وجعلوه نبراساً لهم يستضيئون بنوره، ويهتدون بهديه، فأصبحوا أئمة الهدى وقادة البشرية.
إن سيرته -صلى الله عليه وسلم- رسمت المنهج الصحيح الآمن في دعوة الناس، وهداية البشر، وما فشلت كثير من المناهج الدعوية المعاصرة في إصلاح الناس إلا بسبب الإخلال بهديه والتقصير في معرفة سنته، ونقص في دراسة منهجه -صلى الله عليه وسلم- في الهداية والإصلاح.
إن دراسة الهدي النبوي أمر له أهميته لكل مسلم، فهو يحقق عدة أهداف من أهمها:
الاقتداء برسول الله -صلى الله عليه وسلم- من خلال معرفة شخصيته وأعماله وأقواله وتقريراته، وتكسب المسلم محبة الرسول -صلى الله عليه وسلم- وتنميها وتباركها.
وكذلك التعرف على حياة الصحابة الكرام الذين جاهدوا معه، فتدعوه تلك الدراسة لمحبتهم والسير على نهجهم واتباع سبيلهم.
كما أن السيرة النبوية توضح للمسلم حياة الرسول -صلى الله عليه وسلم-، بدقائقها وتفاصيلها، منذ ولادته وحتى وفاته، مروراً بطفولته وشبابه ودعوته وجهاده وصبره، وانتصاره على عدوه، وتظهر بوضوح أنه كان زوجاً وأباً وقائداً ومحارباً وحاكماً وسياسياً ومربياً وداعيةً وزاهداً وقاضياً، وعلى هذا فكل مسلم يجد بغيته في هذه السيرة العطرة.
- فالداعية يجد له في سيرة الرسول -صلى الله عليه وسلم- أساليب الدعوة ومراحلها المتسلسلة، ويتعرف على الوسائل المناسبة لكل مرحلة من مراحلها، فيستفيد منها في اتصاله بالناس ودعوتهم للإسلام، ويستشعر الجهد العظيم الذي بذله الرسول -صلى الله عليه وسلم- من أجل إعلاء كلمة الله، وكيفية التصرف أمام العوائق والعقبات والصعوبات، وما هو الموقف الصحيح أمام الشدائد والفتن؟.
- ويجد المربي في سيرته -صلى الله عليه وسلم- دروساً نبوية في التربية والتأثير على الناس بشكل عام، وعلى أصحابه الذين رباهم على يده وكلأهم بعنايته، فأخرج منهم جيلاً قرآنياً فريداً، وكوَّن منهم أمة هي خير أمة أخرجت للناس، تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتؤمن بالله، وأقام بهم دولة نشرت العدل في مشارق الأرض ومغاربها.
- ويجد القائد المحارب في سيرته -صلى الله عليه وسلم- نظاماً محكماً ومنهجاً دقيقاً في فنون قيادة الجيوش والقبائل والشعوب والأمة، فيجد نماذج في التخطيط واضحة، ودقة في التنفيذ بينة، وحرصاً على تجسيد مبادئ العدل وإقامة قواعد الشورى بين الجند والأمراء والراعي والرعية.
- ويتعلم منها السياسي كيف كان -صلى الله عليه وسلم- يتعامل مع أشد خصومه السياسيين المنحرفين، كرئيس المنافقين عبد الله بن أبي بن سلول الذي أظهر الإسلام وأبطن الكفر والبغض للنبي -صلى الله عليه وسلم-، وكيف كان يحوك المؤامرات وينشر الإشاعات التي تسيء إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- لإضعافه وتنفير الناس منه، وكيف عامله -صلى الله عليه وسلم-، وصبر عليه وعلى حقده حتى ظهرت حقيقته للناس فنبذوه جميعاً حتى أقرب الناس له وكرهوه والتفوا حول قيادة النبي -صلى الله عليه وسلم-.
- ويجد العلماء فيها ما يعينهم على فهم كتاب الله تعالى؛ لأنها هي المفسرة للقرآن الكريم في الجانب العملي، ففيها أسباب النـزول، وتفسير لكثير من الآيات، فتعينهم على فهمها والاستنباط منها ومعايشة أحداثها، فيستخرجون أحكامها الشرعية وأصول السياسة الشرعية، ويحصلون منها على المعارف الصحيحة في علوم الإسلام المختلفة، وبها يدركون الناسخ والمنسوخ وغيرها من العلوم، وبذلك يتذوقون روح الإسلام ومقاصده السامية.
- ويجد فيها الزهاد معاني الزهد وحقيقته ومقصده.
- ويستقي منها التجار مقاصد التجارة وأنظمتها وطرقها.
- ويتعلم منها المبتلون أسمى درجات الصبر والثبات، فتقوى عزائمهم على السير في طريق دعوة الإسلام وتعظم ثقتهم بالله -عز وجل-، ويوقنوا أن العاقبة للمتقين.
- وتتعلم منها الأمة كاملة الآداب الرفيعة والأخلاق الحميدة والعقائد السليمة والعبادة الصحيحة وسمو الأخلاق وطهارة القلب وحب الجهاد في سبيل الله وطلب الشهادة في سبيله، ولهذا قال علي بن الحسن: "كنا نُعلَّم مغازي النبي -صلى الله عليه وسلم- كما نُعلَّم السورة من القرآن"، وكان الزهري -رحمه الله- يقول: "في علم المغازي علم الآخرة والدنيا".
إن دراسة الهدي النبوي في تربية الأمة وإقامة الدولة، يساعد العلماء والقادة والفقهاء والحكام على معرفة الطريق إلى عز الإسلام والمسلمين، من خلال معرفة عوامل النهوض وأسباب السقوط، ويتعرفون على فقه النبي -صلى الله عليه وسلم- في تربية الأفراد وبناء الجماعة المسلمة وإحياء المجتمع وإقامة الدولة، فيرى المسلم حركةَ النبي -صلى الله عليه وسلم- في الدعوة، والمراحل التي مر بها وقدرته على مواجهة أساليب المشركين في محاربة الدعوة، وتخطيطه الدقيق في الهجرة إلى الحبشة، ومحاولته إقناع أهل الطائف بالدعوة، وعرضه لها على القبائل في المواسم، وتدرُّجه في دعوة الأنصار ثم هجرته المباركة إلى المدينة.
إن المسلم يتعلم من المنهاج النبوي كل فنون إدارة الصراع، والبراعة في إدارة المرحلة، وفي الانتقال من مستوى إلى آخر، وكيف واجه القوى المضادة من اليهود والمنافقين والكفار والنصارى، وكيف تغلب عليها كلها بسبب توفيق الله تعالى والالتزام بشروط النصر وأسبابه التي أرشد إليها المولى -عز وجل- في كتابه الكريم.
إن التمكين لهذه الأمة وإعادة مجدها وعزتها وتحكيم شرع ربها منوط بمتابعة الهدي النبوي، قال الله تعالى: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُم مَّا حُمِّلْتُمْ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ}
[(54) سورة النــور].
إن تأخر المسلمين اليوم عن القيادة العالمية لشعوب الأرض نتيجة منطقية لقوم نسوا رسالتهم، وحطوا من مكانتها وشابوا معدنها بركام هائل من الأوهام في مجال العلم والعمل على حد سواء، وأهملوا السنن الربانية، وظنوا أن التمكين قد يكون بالأماني والأحلام.
إن هذا الضعف الإيماني والجفاف الروحي والتخبط الفكري والقلق النفسي والشتات الذهني والانحطاط الخلقي الذي أصاب المسلمين، سببه الفجوة الكبيرة التي حدثت بين الأمة والقرآن الكريم والهدي النبوي الشريف وعصر الخلفاء الراشدين والنقاط المشرقة المضيئة في تاريخنا المجيد.
أما ترى معي ظهور الكثير من المتحدثين اليوم باسم الإسلام؟ وهم بعيدون كل البعد عن القرآن الكريم والهدي النبوي وسيرة الخلفاء الراشدين، وأدخلوا في خطابهم مصطلحات جديدة ومفاهيم مائعة؛ نتيجة الهزيمة النفسية أمام الحضارة الغربية، وأصبحوا يتلاعبون بالألفاظ ويَلْوُونها ويتحدثون الساعات الطوال ويدبجون المقالات ويكتبون الكتب في فلسفة الحياة والكون والإنسان ومناهج التغيير، ولا نكاد نلمس في حديثهم أو نلاحظ في مقالاتهم عمقاً في فهم فقه التمكين وسنن الله في تغير الشعوب وبناء الدول من خلال القرآن الكريم والمنهاج النبوي الشريف أو دعوة الأنبياء والمرسلين لشعوبهم أو تقصيّاً لتاريخنا المجيد، فيخرجوا لنا عوامل النهوض عند نور الدين محمود، أو صلاح الدين، أو يوسف بن تاشفين أو محمود الغزنوي، أو محمد الفاتح، ممن ساروا على الهدي النبوي في تربية الأمة وإقامة الدولة، بل يستدلون ببعض الساسة أو المفكرين والمثقفين من الشرق أو الغرب ممن هم أبعد الناس عن الوحي السماوي والمنهج الرباني.
ولسنا ممن يعارض الاستفادة من تجارب الشعوب والأمم، فالحكمة ضالة المؤمن فهو أحق بها أنَّى وجدها، ولكننا ضد الذين يجهلون أو يتجاهلون المنهاج الرباني وينسون ذاكرة الأمة التاريخية المليئة بالدروس والعبر والعظات، ثم بعد ذلك يحرصون على أن يتصدروا قيادة المسلمين بأهوائهم وآرائهم البعيدة عن نور القرآن الكريم والهدي النبوي الشريف.
إننا في أشد الحاجة لمعرفة المنهاج النبوي في تربية الأمة وإقامة الدولة، ومعرفة سنن الله في الشعوب والأمم والدول، وكيف تعامل معها النبي -صلى الله عليه وسلم- عندما انطلق بدعوة الله في دنيا الناس، حتى نلتمس من هديه -صلى الله عليه وسلم- الطريق الصحيح في دعوتنا والتمكين لديننا ونقيم بنياننا على منهجية سليمة مستمدة أصولها وفروعها من كتاب ربنا وسنة نبينا -صلى الله عليه وسلم-، قال الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [(21) سورة الأحزاب]، فقد كان فقه النبي -صلى الله عليه وسلم- في تربية الأمة وإقامة الدولة شاملاً ومتكاملاً ومتوازناً وخاضعاً لسنن الله في المجتمعات وإحياء الشعوب وبناء الدول، فتعامل -صلى الله عليه وسلم- مع هذه السنن في غاية الحكمة وقمة الذكاء، كسنة التدرج، وسنة التدافع، وسنة الابتلاء، وسنة الأخذ بالأسباب، وسنة تغيير النفوس، وغرس -صلى الله عليه وسلم- في نفوس أصحابه المنهج الرباني وما يحمله من مفاهيم وقيم وعقائد وتصورات صحيحة عن الله والإنسان والكون والحياة والجنة والنار والقضاء والقدر، وكان الصحابة -رضي الله عنهم- يتأثرون بمنهجه في التربية غاية التأثر، ويحرصون كل الحرص على الالتزام بتوجيهاته، فكان الغائب إذا حضر من غيبته يسأل أصحابه عما رأوا من أحوال النبي -صلى الله عليه وسلم- وعن تعليمه وإرشاده، وعما نزل من الوحي حال غيبته، وكانوا يتبعون خطى الرسول -صلى الله عليه وسلم- في كل صغيرة وكبيرة، ولم يكونوا يقصرون هذا الاستقصاء على أنفسهم، بل كانوا يلقنونه لأبنائهم ومن حولهم.
إن السيرة النبوية تعطي كل جيل ما يفيده في مسيرة الحياة، وهي صالحة لكل زمان ومكان ومصلحة كذلك.
إن السيرة النبوية غنية في كل جانب من الجوانب التي تحتاج إليها مسيرة الدعوة الإسلامية، فالنبي -صلى الله عليه وسلم- لم يلتحق بالرفيق الأعلى إلا بعد أن ترك سوابق كثيرة لمن يريد أن يقتدي به في الدعوة والتربية والثقافة والتعليم والجهاد وفي كل شؤون الحياة، كما أن التعمق في سيرة الرسول -صلى الله عليه وسلم- يساعد القارئ على التعرف على الرصيد الخلقي الكبير الذي تميز به الرسول -صلى الله عليه وسلم- عن كل البشر، والتعرف على صفاته الحميدة التي عاش بها في دنيا الناس، فيرى من خلال سيرته مصداق قول الشاعر:
وأجمل منك لم تر قط عيني
خلقت مبرأً من كل عيب


وأفضل منك لم تلد النساء
كأنك قد خلقت كما تشاء

السيرة الشريفة مليئة بالذخائر والكنوز واللآلئ والدرر، ولابد من الغوص وراء أصدافها الحافظة لها، واستخراج دررها الفريدة من داخلها؛ عجائبها غزيرة، وعقودها باهرة، أتت بالعجائب والنجائب والمراتب في كل باب، وأنتجت الفتوحات المتنوعات في كل درب، وقدمت الصيغ الإنسانية التي تربّت على مائدة القرآن، أفضل النماذج التي يحتذى بها.
وقد احتوت السيرة النبوية ذلك كله، ولذلك فكلما عاشها الإنسان وعاشت به، عرفها أكثر وأدركها أعمق واقترب من مضامينها وأسرارها، ولهذا لا يكفي المسلم -خصوصاً المسلم العامل لدينه- أن يقرأ السيرة مرة واحدة، ولا يكفيه أن يسمع السيرة مرة واحدة، بل يجب أن تكون السيرة النبوية مصاحبة له دائماً، وكلما انتهى من قراءة كتاب من كتب السيرة، انتظر فترة ثم اختار كتاباً آخر وقرأ السيرة مرة ثانية، وفي كل قراءة تتكشف له أشياء وتتفتح له أبواب ويفهم أشياء من هذه السيرة ما فهمها في المرة السابقة، وكلما زاد إدراك الشخص ووعيه وكبر عقله زاد ذلك من فهمه واستنباطاته من سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم-.
ثانياً: مقاصد دراسة السيرة النبوية:
إن السيرة النبوية لا تدرس من أجل المتعة في التنقل بين أحداثها أو قصصها، ولا من أجل المعرفة التاريخية لحقبة زمنية من التاريخ مضت، ولا محبة وعشقاً في دراسة سير العظماء والأبطال، ذلك النوع من الدراسة السطحية، إن أصبح مقصداً لغير المسلم من دراسة السيرة، فإن للمسلم مقاصد أخرى من دراستها من ذلك:
أولاً: أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- هو محل القدوة والأسوة، وهو المشرع الواجب طاعته واتباعه، قال الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [(21) سورة الأحزاب]، وقال تعالى: {وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [(54) سورة النــور]، وقال تعالى: {مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ} [(80) سورة النساء]، وقال تعالى: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ} [(31) سورة آل عمران]، فهو التجسيد العملي والصورة التطبيقية للإسلام، وبدونها لا نعرف كيف نطيع الله تعالى ونعبده.
لقد أصبحت سير كثير من العظماء أضحوكة للبشر على مدار التاريخ كله، فأين نمروذ الذي قال لإبراهيم: {أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} [(258) سورة البقرة]؟! وأين مقالة فرعون وشأنه الذي قال: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [(24) سورة النازعات]، وقال: {مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [(38) سورة القصص]؟!
إن هؤلاء العظماء في زمانهم يسخر منهم اليوم الصغير والكبير والعالم والجاهل، فإن كانوا دلّسوا على أقوامهم في زمنهم واستخفوا بهم فأطاعوهم، فقد افتضح أمرهم بعد هلاكهم، وأصبحوا محل السخرية على مدار الزمان.
إن سيرة الرسول -صلى الله عليه وسلم- جاءت بإخراج الناس من ظلمات الشرك والأخلاق وفساد العبادة والعمل، إلى نور التوحيد والإيمان والعمل الصالح: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا* وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا} [(45-46) سورة الأحزاب].
ثانياً: المقصد الثاني: ليزداد إيماننا ويقيننا بصدقه، فالوقوف على معجزاته ودلائل نبوته مما يزيد في الإيمان واليقين في صدقه -صلى الله عليه وسلم-، فدراسة سيرته العطرة وما سطرته كتب السيرة من مواقف عظيمة وحياة كاملة كريمة تدل على كماله ورفعته وصدقه.
ومن الأمثلة على دلائل النبوة: حنين الجذع، وتكثير الطعام، ونبع الماء بين أصابعه، والإخبار بأمور غيبية مستقبلية وقعت كما أخبر، كقصة حرام بنت ملحان في ركوب ثبج البحر، وحديث أبي هريرة في الصحيحين: ((يهلك كسرى فلا يكون كسرى بعده))، وفي البخاري: ((إن ابني هذا سيد، وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتينن)) فحصل كما أخبر، وحديث: ((ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحرَّ والحرير والخمر والمعازف))، و((من أشراط الساعة أن يتباهى الناس في المساجد)) وغيرها كثير.
ثالثاً: لينغرس في قلوبنا حبه، فما حملته سيرته من أخلاق فاضلة، ومعاملة كريمة، وحرصه العظيم على هداية الناس وصلاحهم وجلب الخير لهم، وبذل نفسه وماله في سبيل إخراج الناس من الظلمات إلى النور، ومن الشقاء إلى السعادة، وما كان من حرصه -صلى الله عليه وسلم- على أمته في إبعادها عما يشق عليها ويعنتها، ولا أعظم من وصف الله -جل وعلا- له في قوله: {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} [(128) سورة التوبة]، وقال تعالى واصفاً نبيه -صلى الله عليه وسلم-: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [(4) سورة القلم].
وأنه لم ينتقم لنفسه قط، ولا فرح أو حزن أو ضحك أو غضب من أجل نفسه ومصالحه الشخصية قط، أو انتصر لنفسه مرة واحدة، بل كل ذلك من أجل الله تعالى.
رابعاً: لنعبد الله تعالى بذكره والصلاة والسلام عليه، قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [(56) سورة الأحزاب]، وروى مسلم في صحيحه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: ((مَنْ صَلَّى عَلَيَّ وَاحِدَةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ بها عَشْرًا)).
ثالثاً: خصائص السيرة النبوية:
للسيرة النبوية خصائص ومميزات، تميزها عن غيرها:
أولاً: أنها معلومة ومسجلة ولم يخف منها شيء: فما ترك علماء الإسلام على مر التاريخ باباً من أبواب السيرة إلا وقد ألفوا فيه مؤلفاً مستقلاً، شمل ذلك دقائقها وجزئياتها، حتى أصبح المسلم عند قراءته لسيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- كأنه يعايشه ويشاهده تماماً؛ لوضوحها وشمولها.
ثانياً: ما تميزت به من الصدق والأمانة في نقلها: فقد حظيت كما حظي بذلك الحديث من التمحيص والتحقيق والمقارنة والتثبت من النقلة ومعرفة الصحيح منها من الضعيف، فأصبحت أصح سيرة نقلت إلينا عن نبي أو عظيم.
ثالثاً: أن رسالته عامة لجميع الخلق مع خلودها: فسيرته قدوة وأسوة لكل البشر، قد ساوت بين الملوك ومن هو دونهم من وجه استفادة الجميع منها، سيرة ينتفع بها صغار الناس وكبارهم، فهم في دين الله سواء، قد رفع من شأن الجميع.
ولا شك أنه ما من خير وصلاح وسعادة في الدنيا والآخرة إلا وهو مستقىً منها، وما من شر وفساد وشقاء وظلم وجور إلا بسبب جهلها والبعد عن الاقتداء بسيرته -صلى الله عليه وسلم-.
لقد أنزل على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو بعد في مكة ومحاصر فيها قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} [(107) سورة الأنبياء]، فهو الرحمة المسداة، والنعمة المهداة للبشرية جميعاً، رحمة لهم ومنقذٌ إياهم من الشقاء والضلال والظلم والفساد والضياع والانحطاط، إلى السعادة والهداية والعدل والصلاح والرفعة والعلو والكرامة، قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} [(28) سورة سبأ]، وقال -جل وعلا-: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [(1) سورة الفرقان]، وقال -صلى الله عليه وسلم-: ((وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ كَافَّة)).
إن الإنسانية كلها تتطلع إلى مثلٍ أعلى تقتدي به، ولن تجد سيرة لعظيم أو نبي معلومة كاملة شاملة غير سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم-.
اسأل البوذيين ماذا يعرفون عن بوذا وما أخلاقه؟ وما هي علاقاته مع أسرته؟ لن تجد جواباً.
واسأل النصارى عن عيسى -عليه السلام-، ماذا يعرفون عنه قبل النبوة؟ والتي يحددونها بثلاثين عاماً، وبعد النبوة ثلاثة أعوام، وكيف العلاقة بينه وبين أمه، أو بينه وبين ربه التي يزعمون بنوته له -تعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً- فلن تجد عند جميع هؤلاء أي جواب، بل ستجد الدهشة بادية على وجوه جميع من تسأله من عالم وغيره، أما نبي الإسلام -صلى الله عليه وسلم- فإنا نعلم تفاصيل حياته الخاصة والعامة.
جل العظماء حالتهم مع الناس غير حالتهم مع أهلهم وفي بيوتهم، ولا يرضون لزوجاتهم أن تخبرنا عن أحوالهم، بل تعتبر حياتهم الخاصة سراً من الأسرار يعاقب على إفشائها، وكل الناس كذلك لا يرضون أبداً أن يطّلع أحد على كثير من حياتهم الأسرية الخاصة، ما عدا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فهو لم يرض فقط بل أمر أن ينقل عنه كل شيء، فبلّغ عنه أزواجه كل ما رأوه منه، حتى إنها لتُبلّغ عنه ما كان تحت اللحاف فيما بينه وبينها، وعن غسلها معه من الجنابة، حتى أن الرجل ليعرف عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أكثر مما يعرفه عن أبيه الملاصق له والساكن معه!.
رابعاً: الميزة الرابعة لهذه السيرة العطرة: كمالها بلا عيب أو نقص أو ضعف أو خلل: قلِّب بصرك وعقلك في ثنايا السيرة النبوية الشريفة، هل ثمت شيء تنتقده؟ أو عيب تجده؟.
إن الرسول -صلى الله عليه وسلم- لم يقض وقته بين أحبابه وأصحابه، بل قضى أغلب عمره بين ألد أعدائه وهم المشركون، وفي آخر عمره كان يجاوره اليهود والمنافقون، فلم يستطيعوا أن يرموه بنقيصة في أخلاقه وشمائله وصدقه، على الرغم من حرصهم الشديد بالبحث والتنقيب عنها، فقد رماه أهل مكة بالألقاب السيئة وعيَّروه بالأسماء القبيحة، إلا أنهم لم يستطيعوا أن يقدحوا بشيء من أخلاقه، أو يدنسوا عرضه الطاهر على الرغم من إنفاقهم أموالهم وإزهاقهم أرواحهم في عدائه، قال تعالى: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ} [(33) سورة الأنعام].
وقد أخرج البخاري عن ابن عباس في صعود النبي -صلى الله عليه وسلم- جبل الصفا لتبليغ الناس حيث قال: ((أَرَأَيْتَكُمْ لَوْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ خَيْلاً بِالْوَادِي تُرِيدُ أَنْ تُغِيرَ عَلَيْكُمْ أَكُنْتُمْ مُصَدِّقِيَّ؟ قَالُوا: نَعَمْ، مَا جَرَّبْنَا عَلَيْكَ إِلاَّ صِدْقا)).
وعن المغيرة بن شعبة -رضي الله تعالى عنه- قال: "إن أول يوم عرفت فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أني أمشي أنا وأبو جهل بن هشام في بعض أزقة مكة، إذ لقينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأبي جهل: ((يا أبا الحكم، هلمَّ إلى الله ورسوله، إني أدعوك إلى الله))، فقال أبو جهل: يا محمد، هل أنت منتهٍ عن سب آلهتنا؟ هل تريد إلا أن نشهد أن قد بلّغت؟ فو الله لو أني أعلم أن ما تقول حقاً ما تبعتك!، فانصرف رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأقبل عليَّ فقال: والله إني لأعلم ما يقول حقاً، ولكن بني قصيّ قالوا: فينا الحجابة، فقلنا: نعم، قالوا: فينا الندوة، قلنا: نعم، قالوا: فينا اللواء، قلنا: نعم، قالوا: فينا السقاية، قلنا: نعم، ثم أطعموا وأطعمنا، حتى إذا تحاكت الركب قالوا: منا نبيّ! فلا والله لا أفعل".
خامساً: شمولها لجميع نواحي الحياة مع الوضوح التام فيها: لقد عاش النبي -صلى الله عليه وسلم- بين صحابته وتزوج بتسع نسوة، وأمر أن يبلّغ الشاهد منهم الغائب، وقال: ((بلّغوا عني ولو آية))، وقال: ((نضّر الله امرءاً سمع منا شيئاً فبلغه كما سمعه، فرب مبلغ أوعى من سامع)).
وما سافر وحده قط، ولا اعتزل الناس في يوم من الأيام أبداً، وقد تضافر الصحابة على نقل كل شيء عنه بل تفرغ عدد منهم للرواية والمتابعة له كأهل الصفة.
لقد وصفوه في قيامه وجلوسه، وكيف ينام، وهيئته في ضحكه وابتسامته، وكيف اغتساله ووضوؤه، وكيف يشرب ويأكل وما يعجبه من الطعام، ووصفوا جسده الطاهر كأنك تراه، حتى ذكروا عدد الشعرات البيض في رأسه ولحيته، ولمحة في كتاب من كتب الشمائل تجد العجب من هذا الشمول وهذه الدقة في الوصف والنقل.
سادساً: أنها بعمومها لم تتعد القدرة البشرية: أي أنها لم تتكئ على الخوارق، أو قامت فصولها على معجزة من المعجزات خارجة عن قدرات البشر، بل إنه من السهل التعرف عليها وتطبيقها والاقتداء بها، فليست مثالية التطيبق.
رابعاً: ضوابط دراسة السيرة النبوية:
هناك ضوابط مهمة يجب معرفتها للذي يدرس السيرة النبوية:
أولاً: فهم حقيقة الإسلام ومنهجه المتكامل: فلا يمكن الفصل بين الجانب السياسي والعسكري والجانب الخلقي والتشريعي خاصة في القرون الأولى من تاريخ الإسلام؛ حيث تتشابك العلاقات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والعسكرية بالعقيدة تشابكاً وثيقاً بحيث يصعب فهم حركة التاريخ في تلك المرحلة دون فهم روح الإسلام ومبادئه.
الضابط الثاني: ينبغي أن تنطلق دراسة السيرة من اليقين بعزة الإسلام وأحقيته في الحكم والسيادة وأن الله لا يقبل ديناً سواه: وأنه لا يفهم إلا من خلال دراسة السيرة، ولذا وجب البعد عن الروح الانهزامية في تحرير السيرة وتحليلها، خذ على سبيل المثال: مسألة قـتل يهود بني قريظة لما قبلوا حكم سعد بن معاذ فيهم وكان حليفهم في الجاهلية، فحكم فيهم بحكم الله: أن يقتل رجالهم وتسبى نساؤهم وذراريهم! هنا يصعب الموقف على من في قلبه انهزامية، فيسعى للتشكيك في ثبوت القصة. وهي ثابتة بلا شك.
الضابط الثالث: اعتبار القرآن الكريم مصدراً أولاً في تلقي السيرة وفهمها: فالقرآن يشتمل على إشارات تفصيلية لا توجد في مصدر آخر كما في أحداث زواج زينب -رضي الله عنها-.
أيضاً دقة وصف القرآن للأحداث والأشخاص، حتى يصور نبضات القلب وتقاسيم الوجه وخلجات الفؤاد، وهذه خصيصة تنقل القارئ إلى جو الحدث ليعيش فيه، وأيضاً تركيزه على خصائص سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- مثل: كونه بشراً، وأن رسالته عامة وأنه خاتم النبيين.
وبدراسة السيرة من القرآن يتحول الحدث من قصة في زمان ومكان معينين إلى درس كبير متكامل يتعدى ظروفهما ويُتلى إلى قيام الساعة.
إن من يعيش السيرة من خلال القرآن وصحيح السنة لا تعود السيرة في حسه مجرد أحداث ووقائع، وإنما تصير شيئاً تتنامى معه مشاعره الإيمانية ووعيه الإيماني بالسنن الربانية.
الضابط الرابع: تمحيص الصحيح من الأخبار فيما يتعلق بالعقيدة والشريعة: فالمطلوب اعتماد الروايات الصحيحة وتقديمها ثم الحسنة ثم ما يعتضد من الضعيف؛ لبناء الصورة التاريخية لأحداث المجتمع الإسلامي في عصر صدر الإسلام، وعند التعارض يقدم الأقوى دائماً، أما الروايات الضعيفة التي لا تقوى أو تعتضد فيمكن الإفادة منها في إكمال الفراغ الذي لا تسده الروايات الصحيحة والحسنة على ألا تتعلق بجانب عقدي أو شرعي.
ولا يخفى أن عصر السيرة النبوية والخلافة الراشدة مليء بالسوابق الفقهية، والخلفاء الراشدون كانوا يجتهدون في تسيير دفة الحياة وفق تعاليم الإسلام، فهم موضع اقتداء ومتابعة فيما استنبطوا من أحكام ونظم لأقضية استجدت بعد توسع الدولة الإسلامية على إثر الفتوح.
الضابط الخامس: الالتزام بالمصطلحات الشرعية: قسم الله -تبارك وتعالى- الناس ثلاثة أقسام: مؤمناً وكافراً ومنافقاً، كما في صدر سورة البقرة، وجعلهم حزبين: أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، فالواجب الالتزام بهذه التسميات وعدم العدول عنها إلا عند الحاجة للتعريف باتجاهات بعض الأفراد الذين يترتب على معرفة ذلك منهم مصلحة، مع الحرص على التحديد ما أمكن، وفائدة التحديد في تقليل التمييع والتضليل الذي يسعى إليه المفسدون وأشياعهم حيث يحرصون على التعمية وتجاهل الأسماء الشرعية التي يترتب عليها أحكام، وتستلزم ولاءً أو براءً.
الضابط السادس: صدق العاطفة: من أسس دراسة السيرة توفر المحبة الصادقة لصاحبها -صلى الله عليه وسلم- والعاطفة الحية التي تُشعر بمدى الارتباط الحقيقي قلباً وقالباً، والتفاعل الحقيقي مع أحداث سيرته.
ولقد عبر الشيخ محمد الغزالي -رحمه الله- عن عاطفته الجياشة فقال في مقدمة كتابه الفذ (فقه السيرة): "إنني أكتب في السيرة كما يكتب جندي عن قائده، أو تابع عن سيده، أو تلميذ عن أستاذه، ولست كما قلت مؤرخاً محايداً مبتوت الصلة بمن يكتب عنه"، فدراسة السيرة هو تعبُّد لله -عز وجل- وتقرباً إليه.
الضابط السابع: الوفاء بحقوق المصطفى -صلى الله عليه وسلم- دون غلو أو جفاء: ينأى عن سنة النبي -صلى الله عليه وسلم- ومنهج سلف الأمة في دراسة السيرة فريقان: قوم قصَّروا في حق النبي -صلى الله عليه وسلم- وما يجب له من الإجلال والتوقير والتعظيم، فدرسوا سيرته كما يدرسون سائر الشخصيات الأخرى، فنظروا لجوانب العظمة البشرية والقيادة والعبقرية والبطولة والإصلاح الاجتماعي، مغفلين الجانب الأعلى في حياته وهو تشرفه بوحي الله -عز وجل- وختم النبوة والرسالة، ولهؤلاء يحسن سياق خبر أبي سفيان يوم فتح مكة، حيث قال للعباس لما رأى كتائب الصحابة -رضي الله عنهم-: والله لقد أصبح ملك ابن أخيك اليوم لعظيماً، فقال العباس: ويحك يا أبا سفيان إنها النبوة، قال: فنعم إذنً.
وآخرون بالغوا في التعظيم وغلوا في منـزلة الرسول -صلى الله عليه وسلم- فلم يَرُقْ لهم وصفه بالبشرية، بل ربما خطر لبعضهم أنه ضربٌ من الجفاء مع أن كونه -صلى الله عليه وسلم- بشراً عبداً لله -عز وجل- من مسلَّمات العقيدة، وخلافه ضرب من الضلال، فقد قال -صلى الله عليه وسلم-: ((لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، فإنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله)).
فالحق وسط بين الطرفين، ولدراسة السيرة انطلاقاً من ذلك أثر كبير في العقيدة والعبادة والسلوك والدعوة والتأسي والاقتداء.
الضابط الثامن: تحديد هدف الدراسة وهو الاقتداء والتأسي: من العبث اعتبار سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- لمجرد التسلية وإبراز عظمة الرجال، بل إن سيرته هداية للناس، وترجمة عملية لدين الله -عز وجل- وتصور للإسلام يتجسد في حياة صاحب الرسالة، تطبيقاً للمبادئ والقواعد والأحكام النظرية.
ولمَّا وعى الصحابة وسلف الأمة هذا الغرض اكتسبت السيرة في حياتهم مكانة علمية تليق بها وبهم.
الضابط التاسع: معرفة مواضع الاقتداء من فعله -صلى الله عليه وسلم-: فمعرفة أحوال أفعاله -صلى الله عليه وسلم- وأقسامها مبحث أصولي يهم دارس السيرة. وفعله -صلى الله عليه وسلم- لا يخلو إما أن يكون صدر منه بمحض الجِبِلَّة، أو بمحض التشريع، وهذا قد يكون عامّاً للأمة، وقد يكون خاصّاً به -صلى الله عليه وسلم-، فهذه ثلاثة أقسام:
القسم الأول: الأفعال الجِبِلّية: كالقيام والقعود والأكل والشرب، فهذا القسم مباح؛ لأن ذلك لم يقصد به التشريع ولم نتعبد به، ولذلك نسب إلى الجِبِلَّة، وهي الخِلْقة.
القسم الثاني: الأفعال الخاصة به -صلى الله عليه وسلم- التي ثبت بالدليل اختصاصه بها كالجمع بين تسع نسوة، فهذا القسم يحرم فيه التأسي به.
القسم الثالث: الأفعال البيانية التي يقصد بها البيان والتشريع، كأفعال الصلاة والحج، فحكم هذا القسم تابع لما بيَّنه، فإن كان المبيَّن واجباً كان الفعل المبيِّن له واجباً، وإن كان مندوباً فمندوب.
الضابط العاشر: معرفة كيفية الاستفادة منها في الواقع: الدراسة المفيدة للسيرة تحصل حين تُدرَس على أنها سنن ربانية يمكن أن تتكرر كلما تكررت ظروفها، ولا تتحقق أبداً حين ننظر للسيرة على أنها مجرد أحداث مفردة قائمة بذاتها حدثت زمن البعثة النبوية، بل هي آيات وعبر في شؤون الحياة كلها، وإلا ضاع رصيدها وقوتها الدافعة لأجيال المسلمين، فهي تربط المسلم بالسنن الربانية، وتربط قلبه بالله تعالى.

وأخيراً:
إن كل حركة إصلاح أو تغيير تعجز عن الاستفادة من السيرة في صياغة مناهجها وحل مشكلاتها هي بعيدة عن الاقتداء؛ لأن الواجب تجريد السيرة من قيد الزمان والمكان لتجيب عن أسئلة الواقع ومشكلاته.
والحمد لله أولاً وآخراً...

ليست هناك تعليقات

إرسال تعليق

© جميع الحقوق محفوظة مداد الجليد 2013 -